محمود أمين العالم 2

المفكر الكبير محمود أمين العالم يواصل حواره مع «المصرى اليوم » : ٢ ـ ٢
ليس ذنبنا أن الرئيس له ابن يريد أن يصبح رئيساً
----------------------------------
حوار رانيا بدوي ٤/ ٤/ ٢٠٠٧
---------------------------------


«عايزينك معانا خمس دقائق»، جملة سمعها أكثر من مرة خلال فترة نضاله السياسي.. لم يسمعها طوال حياته إلا في ساعات متأخرة من الليل أو الساعات الأولي من الفجر.. وكانت دائما إشارة إلي أمر خطير، وربما ذهاب بلا عودة.. وهو ما دفع المفكر محمود أمين العالم إلي التأكيد علي أن سياسة مصر تحولت وتغيرت إلي الأسوأ، من رئيس إلي رئيس..

ورغم الاختلافات الجوهرية ما بين عهد وآخر، إلا أن شيئاً واحدا لم يتغير في رأيه، بل بقي قويا، اسمه «سطوة الأمن» والتعذيب الذي كان سمة بعض الفترات والتضييق علي كل من يختلف مع النظام في الرأي أو الفكر.. ليعتلي الأمن السياسي المنصة ويتراجع أمن المواطن، وجلس محمود أمين العالم يحكي لي،

والذاكرة لم تخنه لحظة، ولم تتوقف عن إمداده بلحظات ما كان ليطيقها بشر، أو ليتحملها إنسان، داخل المعتقلات المصرية، ولكنه تحملها، ومرت العهود، وهو باق كما هو شديد الإيمان بأفكاره وشديد الفخر بتاريخه، وقبل أن أسأله عن تعذيب السجون سألته عن عذاب الناس في الشارع:

.. كيف تري الوضع الاقتصادي في مصر؟

ـ نحن نزداد تبعية للنظام الرأسمالي العالمي.. خاصة أمريكا التي ترتبط بدورها مع إسرائيل بعلاقات قوية.. وفتح مصر للرأسمال الأجنبي ليحصل علي الأعمال التي كان يقوم بها المصريون يزيد من البطالة والتحكم والسيطرة علي السوق.. وهو ما أدي إلي تردي الأوضاع الاقتصادية في مصر وغلاء الأسعار بل فقر مدقع في أنحاء كثيرة من البلد.

.. وهل أنت وتنظيمك الشيوعي الذي تحدثت عنه بالأمس ضد الخصخصة؟

ـ نحن ضد الخصخصة الكاملة، ولكن لسنا ضد القطاع الخاص، فنحن فقط نحاول في برنامجنا الحفاظ علي وجود القطاع العام في بعض النواحي لضمان حصول المواطن علي احتياجاته بأسعار زهيدة.. كما أننا نريد ضوابط تحكم القطاع الخاص والاحتكار والاستغلال، وحل مشكلة البطالة، ومهتمون بزيادة الإنتاج المحلي وتنمية القوة الإنتاجية في مصر، وبناء اقتصاد قوي لا يعتمد علي الخارج.

.. هل مازلت ضد الرأسمالية التي تحولت من مجرد شبح في عهد السادات إلي ما يشبه الواقع في العهد الحالي؟

ـ نحن الآن لا نستطيع إلغاء الرأسمالية والملكية الفردية مطلقا، لأنها أصبحت النظام الذي يحكم العالم، ولكن المهم هو وضع محددات لهذه الرأسمالية وهذا ما نحاول أن نضمنه في برنامجنا نحن الشيوعيين وهو تقديم حلول قابلة للتنفيذ.

.. ما رأيك في التعديلات الدستورية الحالية؟ وهل تري أنهم نزعوا منها ما تبقي من ملامح الاشتراكية؟

ـ ما يحدث الآن ليس تعديلات إنما تكريس للوضع القائم بالفعل، من حل للقطاع العام والارتباط بإسرائيل وتنفيذ سياسة أمريكا في المنطقة، وتمهيد الطريق أمام الابن العزيز لتولي السلطة، فهي في مجملها تعمل علي إلغاء ما تبقي من الاشتراكية التي تعني العدالة الاجتماعية وعدم الاستغلال، وبالتالي إلغاء المستقبل الجيد وإعادة ما كان موجوداً سابقا في كل شيء.. ورغم أنه لم تكن لدينا سوي ملامح بسيطة للاشتراكية في الدستور، إلا أنهم قضوا حتي علي هذه الملامح.

.. صوتك يحمل رأيا مضادا لوصول جمال مبارك للحكم فهل أنا محقة؟

ـ توجد محاولة دؤوب من النظام لتوريثه الحكم عن طريق انتخابات شكلية تزور، كما زورت من قبل، فهم يعملون كل ما يمكن عمله لتحقيق هذا الحلم، ينظمون له جولات في كل المحافظات ليقدم نفسه للشعب ويقربونه منهم.. ويملون عليه كلاما جيداً يلقيه في لقاءاته، والسؤال هنا كيف لهذا الرجل الذي عاش أغلب سنوات عمره من حياة ودراسة خارج مصر أن يركب علي الحكم بلا أي مقدمات؟!

.. بعض المرحبين بالفكرة يقولون إنه مؤهل للحكم ثم أنه ليس له ذنب في كونه ابن الرئيس؟

ـ صرخ في وجهي وكأنني أحمل وجهة نظري الشخصية قائلاً: ويعني هو ذنبنا احنا أن الرئيس له ابن لم نسمع عنه أبدا ولم يشترك في مظاهرة ولم ينزل الشارع، وليس له أي نشاط اجتماعي ولا حتي سياسي، ليأتي به أميناً للسياسات، ويريد أن يكون رئيس جمهورية مصر العربية التي بها كفاءات أفضل منه!!

.. هل تعتقد أنهم سينجحون في إيصاله للسلطة؟

ـ المسألة صعبة وأمامه عقبات كثيرة أولاها أن مصر ليست ملكية، وثانيا عدم رغبة الشعب فيه، اللهم إلا إذا تم تزوير الانتخابات من أجله ووضعت درجاته حتي قبل إجراء الانتخابات، وطبخ كل شيء مسبقاً.

.. وماذا لو أتي جمال إلي السلطة؟

ـ أعتقد أن البلد سيزداد سوءا.

.. ومن ترشح إذن؟

ـ لن أحدد أسماء.. أنا مع أي شخص يقدم نفسه للترشيح من أصغر فلاح إلي أكبر مثقف.. المهم أن يكون لديه برنامج حقيقي يخدم به الناس.

.. هل اقتربنا يوما من الاشتراكية؟ هل تحققت كفاءة الإنتاج وعدالة التوزيع.. والمساواة الاجتماعية؟ هل يمكن أن تنقذنا الاشتراكية، مما نحن فيه الآن؟ أم أنها أصبحت موضة بالية في عصر تتحدث فيه رؤوس الأموال فيصمت الجميع وتدار الشعوب بأطراف أصابع الكبار؟

ولو أن الشيوعية التي يتحدث عنها محمود العالم تحمل هذه السمات النبيلة الإنسانية من عدالة ومساواة وحرية وغيرها إذن هم يستوحون أكفارهم من مبادئ الدين الإسلامي.. وشطح رأسي أكثر وتصارعت فيه الأفكار فتساءلت: إذن الدين الإسلامي يساري فلماذا يحاول الإخوان المسلمون جذبه إلي اليمين؟ بدأت من هذا السؤال ودفعته للإجابة عن باقي الأسئلة.

.. الدين الإسلامي يساري أم يميني؟

ـ الإخوان أقرب للدين في النص الكامل الجامد الذي لا يراعي اختلاف الزمان والمكان، والشيوعيون أقرب إليه عمليا في التطبيق، فنحن نوائمه مع الواقع فسيدنا محمد قال: أنتم أعلم بشؤون دنياكم.. وبالمناسبة نحن بيننا مسلمون كثيرون، كما كان بالحزب الشيوعي الإيطالي والفرنسي مسيحيون كثيرون.

.. وبعد أن ورطته في هذا السؤال عدت واستنكرت فسألته: وهل الدين الإسلامي يصح أن نلوثه بالتصنيفات السياسية؟ وأذكر أنني لم أتلق جوابا مفهوما.. لكن أذكر أنني سألته: لماذا ارتبطت الشيوعية في مصر بالإلحاد والبعد عن الدين؟

ـ لأن هناك حرباً ضد الفكر اليساري ولم تكن مناقشة مع فكرنا، ولأن الدين شيء قيم جدا لدي الناس، لذا استخدمه البعض في تشويه كل من يختلفون معهم في الرأي، وبالمناسبة لقد بنينا جامعا في أحد المعتقلات التي سجنا بها ومازال اسمه حتي الآن جامع الشيوعيين.

.. هل نحن اقتربنا يوما من الاشتراكية الحقيقية أم أنها ظلت حبيسة الشعارات؟

ـ ربما لم نقترب حتي الآن من الاشتراكية التي كنا نحلم بها من عدالة وحرية وديمقراطية، ومجانية تعليم، ولكننا اقتربنا منها في عهد عبدالناصر، ورغم فردية عبدالناصر في قراراته أحيانا، إلا أنه كان يعمل علي أحداث اشتراكية حقيقية ولا يستطيع أحد أن ينكر جهوده في هذا الأمر.

.. بما أن الاشتراكية خطوة علي الطريق إلي الشيوعية، كما قلت سابقا.. وها أنت الآن قد اعترفت أننا قد اقتربنا من الاشتراكية بالكاد.. إذن لم يكن للشيوعية أي مكان في مصر من قبل سوي اسمها لذا أتساءل متي تعلنون وفاة الشيوعية؟

ـ هل يستطيع أحد إعلان وفاة فكرة.. فحتي الفكرة السيئة لا تموت.. الشيوعية هي الأمل الكبير للعدالة والمساواة والحرية والديمقراطية والتقدم والمستقبل.. الشيوعية مازالت موجودة، ولكن طريقها صعب فهي حركة جماهيرية عميقة سنظل نجاهد من أجل الوصول إليها دائماً.

.. هل الاشتراكية تصلح الآن في زمن العولمة؟

ـ الاشتراكية قادرة علي مواجهة العولمة، هذا إن كانت هناك عولمة بالفعل، فالأزمة التي نواجهها الآن هي سيطرة أمريكا علي العالم بما يسمي الهيمنة الأمريكية، وأنا أري أن الخطر الأساسي علي الشعوب لا يكمن في العولمة التي تعني سيطرة رأس المال.. إنما في هيمنة الولايات المتحدة علي العولمة، وهي معركة وقضية لن تحل بين يوم وليلة، لأن الاشتراكية لن تتحقق في يوم وليلة.

.. وما هو الحل؟ وإلي أين يذهب العالم في ظل الهيمنة الأمريكية علي العولمة كما تقول؟

ـ الحل في إتاحة فرصة أكبر للشعوب في كيفية اختيار طريقها نحو التنمية وأن يكون لكل دولة حق التضامن العالمي مع كل دول العالم في إطار علاقات تستند إلي الديمقراطية واحترام الآخر، علاقات لا تحكمها ولا تصوغها أمريكا.. فالرأسمالية التي تحكم علاقات الدول دخلت الآن مرحلة الاحتكارات الكبري والشركات متعددة الجنسية التي تسعي إلي الهيمنة علي العالم لمصالحها، لذا أصبحت العولمة ضد الاتجاه العقلاني والديمقراطي وضد احترام الآخر بل وضد الحداثة، فالحداثة تعني الحرية والعدالة.

.. هل انتهي حلم القومية العربية؟

ـ نحن نعمل جاهدين كقوي يسارية وناصرية وشيوعية من أجل تحقيق هذا الحلم.

<اختلف محمود العالم مع كل الأنظمة السىاسىة التى حكمت مصر، هاجم سىاسة عبدالناصر واتهم السادات بالخىانة العظمى، ووصف مبارك بأنه أضر بمصلحة الناس، وشاع الفساد فى عهده وختم بوصفه مستنكرا «ماذا تنتظرون من نائب السادات» فبدأت معه من الأول:>.. ما سبب خلافك مع عبدالناصر؟

ـ رغم ما أبليناه من بلاء حسن في مقاومة العدوان الثلاثي علي مصر عام ٥٦، إلا أنه في عام ٥٨ عندما قامت الوحدة بين مصر وسوريا ونشرت بيانا سريا يحمل الاسمين الحركيين لي أنا وعبدالعظيم أنيس «سيد وفريد» نشيد فيه بالوحدة، ولكن ننتقد عدم حفاظها علي الخصائص الموضوعية للمجتمعين المصري والسوري، ووقعناه في النهاية باسم الحزب الشيوعي المصري، الذي كان قد تشكل في نفس العام موحدا كل التنظيمات الماركسية في مصر لأول مرة بعد الحزب القديم عام ١٩٢٤،

لذا اعتبرنا عبدالناصر ضد الوحدة.. ومن هنا بدأ الخلاف.. وفي أواخر نوفمبر من نفس العام استدعاني السادات وكان ضابطاً في مجلس قيادة الثورة وطلب مني حل الحزب الشيوعي المصري وصاحب ذلك تهديد ووعيد بذبحنا، علي حد قوله، كما فعلوا مع الإخوان المسلمين، وانتهي اللقاء إلي لا شيء، فبدأت بعدها حملة الاعتقالات،

وفي عام ١٩٥٩ تم اعتقالي في منزلي وقضينا رحلة طويلة في المعتقلات بدأت من سجن الواحات الخارجية إلي سجن قراميدان بالقاهرة، ثم إلي سجن الحضرة بالإسكندرية، ثم عادوا إلي القاهرة ومنه إلي سجن أبوزعبل وليمان طره، حيث حكم علينا بتكسير الجبل وتفجير حجارته البازلتية بالديناميت، ثم تقطيعها لقطع صغيرة لرصف الشوارع وكانوا يمعنون في تعذيبنا ومهانتنا حتي استشهد شهدي عطية ودكتور فريد حجاد وآخرين لسوء الأوضاع الصحية، وقد تم الإفراج عنا في منتصف عام ١٩٦٤.

.. العدالة الاجتماعية رابط بين اشتراكية عبدالناصر وشيوعيتكم فلماذا كل هذ التعذيب؟

ـ الاشتراكية كما قلت خطوة للوصول إلي الشيوعية والمسافة بينهما كبيرة وعبدالناصر في النهاية كان مع الملكية الفردية والنظام الرأسمالي، ولكن في حدود.. أما نحن فكنا ضد الملكية الفردية علي الإطلاق.

.. رغم التعذيب الذي لقيته في عهد عبدالناصر فإنك تدافع عنه وتدين السادات؟

ـ لأنني أتذكر عبدالناصر، وقد استدعاني بعد الإفراج عنا، وهو يقف منتظرا إياي علي رأس السلم وقد بادرني بتقديم الاعتذار لي عما لقيناه في السجن وأوكل لي رئاسة تحرير جريدة «أخبار اليوم»، وقد قلت له لا عليك يا سيادة الرئيس نحن فقط حزنا، لأننا لم نكن معك أثناء تحقيقك للإنجازات الكثيرة التي يلمسها الشعب الآن..

وكان عبدالناصر قد أعلن الميثاق وتم تأميم الشركات الرأسمالية والملكيات الزراعية الكبيرة، وتشكل الاتحاد الاشتراكي، وكان قد تم الاتفاق علي اندماج الشيوعيين سواء في الاتحاد أو التنظيم.. وفي النهاية عبدالناصر رغم ديكتاتوريته أحيانا، فإنه كان رجلا وطنيا معادياً للاحتلال، بعكس السادات الذي وثق علاقتنا بالأمريكان واعترف بإسرائيل.

.. ولكن ألا تذكر للسادات إفراجه عنك بعد الحكم عليك بالموت شنقا؟

ـ السادات لم يفرج عني حبا في، بل لأنني أحرجته عندما قلت في التحقيقات ما يدينه واتهمته في النهاية بالخيانة العظمي عندما وجهوا لي نفس التهمة.. فقد أمر السادات باعتقالي مع من سماهم بمراكز القوي، واتهمت مع آخرين من بينهم علي صبري وشعراوي جمعة ومحمد فائق بتهمة الخيانة العظمي وحكم علي بموجبها بالإعدام شنقاً،

وقد هيأت نفسي للموت ولم أكن خائفاً حتي اليوم الذي فتح فيه باب زنزانتي وأعيدت إلي ملابسي لأجد نفسي خارج معتقل القلعة، فركبت تاكسي وعدت إلي منزلي وطلبت في اليوم الثاني للشهادة، فإذا بي أخيب توقعاتهم وأشهد في صالح زملائي،

والمثير للدهشة أنه بعد الإفراج عني مباشرة أتي محقق من وزارة الثقافة إلي منزلي ليحقق معي في سر تغيبي عن العمل كمسؤول عن مؤسسة المسرح!! وبالمناسبة لقد اختفي الملف الخاص بالتحقيقات معي تماماً بكل ما ذكر فيه.

.. حتي وإن كانت تجاربك الشخصية معه سيئة فيبقي أنه بطل نصر أكتوبر؟

- السادات كانت تحكمه دائماً مصالحه الشخصية، وكان يوجد في أي شيء يحقق له الظهور والشهرة، فهو كان يريد إنهاء التجربة الاشتراكية فقط لا غير.

.. هل لو كانت ثورة عبدالناصر خلفت وراءها ما يحمي مكتسباتها لما كان الانفتاح ولا سيطرة الرأسمالية؟

- لاشك أن عدم الديمقراطية وتفكيك عبدالناصر للقوي المختلفة ومنها الشيوعيين قدم أرضاً ممهدة للسادات.

.. وماذا عن تقييمك للرئيس مبارك وعهده؟

- بدأ طيباً ولكن السلطة بعد ذلك «لبسته» وأصبح تابعاً في سياسته لأمريكا وإسرائيل وجررنا معه إلي هذا الاتجاه، وقام بدور سياسي فقط ولم يكن له أي دور في الحركة التقدمية.

.. ألم يترك أي بصمة؟

- ترك بصمة سلبية، فقد فكك القطاع العام، ألم يكن مبارك نائباً للسادات، لذا طبيعي أن يسير علي نهجه ولكنه أقل حنكة منه، فهو أكد المصالحة مع إسرائيل، وزاد من ارتباطنا بأمريكا، وشاع في عهده الفساد، وأفسد كل خطط التنمية وزاد من تبعيتنا للخارج.

.. هل قابلت الرئيس مبارك؟

- مرة عندما أعطاني جائزة الدولة التقديرية التي تأخرت كثيراً، ومرة ثانية منذ عدة أعوام عندما كنت مدعواً في لقاء المثقفين الذي يعقد في يوم افتتاح الرئيس لمعرض الكتاب كل عام، وأثناء تسليمه علينا بعد الجلسة عرفته بنفسي، فطبطب علي كتفي وقال لي: أنت طبعاً معروف يا أستاذ محمود وغني عن التعريف فلا تذكر اسمك، وبعدها لم يتم دعوتي لهذه الجلسة مرة ثانية.

.. لماذا؟

- ربما لأن سياسته اتضحت جداً خلال السنوات الأخيرة وكنت حاد اللهجة في نقدي لسياسته في مقالات لاذعة.

.. هاجمت هيكل بضراوة في مقال أخير لك فلماذا؟

- هيكل هاجم الشيوعيين مؤخرا قائلاً: إنها حركة يهودية، وكان علي رأسها كورييل، وبدأت في الأربعينيات فكتبت أرد عليه في مقالة كاملة شديدة الأدب، قلت له فيها إن الحركة الشيوعية بدأت في القرن التاسع عشر وليس في الأربعينيات كما ذكرت، كما قلت له يا هيكل كتبت بعد وفاة عبدالناصر مباشرة أنه لم يكن أسطورة، لتمهد لنفسك للدخول في عهد السادات، وكأنك تتنبأ بالنظام الرأسمالي الذي أنت منه، وها هو الآن يهاجم الشيوعيين في محاولة لتشويههم.

.. وهل يتنبأ هيكل بمرحلة جديدة الآن؟

- هيكل يعلم باقتراب حركة التغيير وكل ما يهمه هو تشويه الشيوعيين لإبعادهم عن أي حركة تغيير.

.. وهل يعرف هيكل باقتراب إعلانكم عن أنفسكم؟

- هيكل متابع الحركة الشيوعية العلنية والسرية جيداً، وهو حريص علي استمرار النظام الرأسمالي لأنه يعبر عنه.

.. إلي أي مدي تغيرت الصحافة من أيام هيكل وأيامك في شارع الصحافة عندما توليت مجلس إدارة جريدة «أخبار اليوم»؟

ـ الصحافة الآن تدل علي الواقع الحالي، فهناك صحف تمثل النظام الرأسمالي وصحف تمثل الرأسمالية الوطنية وصحف تمثل اليسار.. وصحف تمثل الإخوان، وأمريكا هي التي فرضت علي الحكومة المصرية إطلاق حرية الصحافة، ولكن في النهاية المجتمع أمي، لذا لا يوجد خوف من بعض الأصوات المعارضة.. فالحكومة لها اليد الطولي، فهم يسيطرون علي التليفزيون الذي يعد وسيلة المعرفة الحقيقية لهذا الشعب الأمي ويمنعون المعارضة من الظهور فيه، ويحاولون إلهاء الناس عن القضايا المهمة بالرقص والغناء والبرامج التافهة.

.. بلا ترتيب للأسئلة أو تحضير وجدتني أسأله ما رأيك في تعبير الشعب عن غضبه بمظاهرات من حين إلي آخر؟

- المظاهرات.. أي مظاهرات؟ أتقصدين التي يتم الاعتداء فيها علي عفاف الرجال والنساء!!

وأومأ معرباً عن أسفه فاعتذرت له عن إثقالي عليه وأنهيت الحديث.

دموع في عيون رجل وحيد

هنا نامت سميرة الكيلاني، وهنا كانت تجلس.. هذه كتب خطت تحت سطور صفحاتها بقلمها.. وها هي أوراق ساعدت في ترجمتها وتنقيحها في محاولة لمساعدة زوجها.. لا أتحدث عن الإعلامية الراحلة سميرة الكيلاني إنما عن رجل لا يبدأ أي حديث ولا ينهيه إلا باسمها وسيرتها..

قبل وبعد كل جملة، فهو رغم كل تاريخه النضالي، ومؤلفاته ونظرياته الفلسفية، يؤكد أن أجمل حدث وقع له في الحياة هو زواجه من الإذاعية والإعلامية الكبيرة سميرة الكيلاني ـ رحمها الله وأعانه علي العيش وسط ذكرياته معها ـ فهو الآن يعيش وحيداً في منزل ضخم بجاردن سيتي لا يملك إلا حوائط من الكتب تعانق السقف، زادها الزمن صفرة وتحمل فكر ماركس ونظريات لينين، وأرفف لكل فنون الأدب والشعر وأخري للفلسفة وغيرها وسط صمت الكتب وآنين الذكريات يرن الهاتف كل نصف ساعة تقريباً..

إنها عائشة شقيقته الكبري التي تسأله عن كل شيء بدءاً من مواعيد الدواء وانتهاء بضيوفه وملابسه لتطمئن عليه بعد أن أصبح وحيداً في حياة صعبة رحل عنها حب العمر والأصدقاء وجفاه التلامذة ونساه المنتفعون حتي وإن أكد عدم اكتراثه بشيء.

.. سألته عن ابنته الدكتورة شهرت العالم؟

ـ فقال: شهرت تتصل بي من حين إلي آخر ولكنها ستنتقل قريباً للعيش في منطقة بعيدة عني.

.. لماذا لم تنجب أبناء أكثر لتتحدث عنهم فرحة كما تفعل عند ذكر أبناء شقيقتك؟

- نظر لي والابتسامة ارتسمت علي وجهه كيف لي أن أنجب أكثر وأنا كنت ضيفاً دائماً في المعتقلات أنتقل من سجن إلي آخر؟ وأضاف ساخراً: «كويس قوي إني عرفت أجيب شهرت».

.. من يعيش معك؟

- لا أحد.

.. من يرعاك؟

- أنا أراعي نفسي، صحتي بمب والحمدلله، «أنا أجمد منك».

.. وكيف تأكل؟

- تأتي لي الشغالة مرتين في الأسبوع لتطبخ لي.

.. من أين تنفق؟

- بعد تعييني في كلية الآداب جامعة فؤاد الأول «جامعة القاهرة اليوم» كمدرس مساعد للمنطق ومناهج العلوم تم فصلي بعدها بعدة أشهر أنا وعدد آخر من الأساتذة لأسباب سياسية لذا لا أحصل إلا علي معاش ضئيل للغاية أما راتبي الحقيقي، وهو راتب محترم أحصل عليه من جامعة باريس التي كنت مدرساً فيها للفكر العربي وهم حريصون علي إرسال معاشي كل شهر في الموعد بالضبط بل ويرسلون لي خطاباً قبلها بعدة أيام ليعلموني بأنه قد تم تحويل المبلغ لي فقط مطلوب مني أن أذهب مرة كل عام إلي القنصلية لأثبت لهم أنني مازلت علي قيد الحياة،

ورغم أنني عملت في مجلة «روزاليوسف» ورئيساً لمجلس إدارة هيئة الكتاب ثم رئيساً لمجلس إدارة مؤسسة المسرح ثم رئيساً لمجلس إدارة «أخبار اليوم»، فإنني لا أحصل علي أي معاش من هذه الجهات.. فأنا تقديري يأتي دائماً من الخارج.

.. هل تشعر بالوحدة؟

- نعم.. فسميرة كانت كل دنيتي.. ولمعت عيناه بالدموع فتوقفت عن هذه الأسئلة التي لم أهدف بها التدخل في شؤونه الخاصة والتي ربما لا تهم القارئ، إنما أردت فقط التركيز علي حالة مجتمعية نعيشها الآن.
------------------------------
نشر في المصري اليوم بتاريخ 4-4-2007
http://www.almasry-alyoum.com/article2.aspx?ArticleID=53522

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المتابعون